فصل: تفسير الآية رقم (5):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.مناسبة قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآَيَاتِ الله لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَالله عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ (4)} لما قبله:

.قال البقاعي:

ولما ختم أوصافه بأنه فرقأن لا يدع لبسًا ولا شبهة أنتج ذلك قطعًا أن الذين قدم أول تلك أنهم أصروا على الكفر به خاسرون، فأخبر سبحانه وتعالى بما أعد لهم من العذاب فقال: {إن الذين} مؤكدًا مظهرًا لما كان من حقه الإضمار، لولا إرادة تعليق الحكم بالوصف وهو الكفر أي الستر لما تفضل عليهم به من الآيات؛ ثم قرر قدرته على ما هدد به وعبر به فقال: عاطفًا على ما أرشد السياق مع العطف على غير مذكور إلى أنه: فالله سبحانه وتعالى عالم بما له من القيومية بجميع أحوالهم: {والله} أي الملك العظيم مع كونه رقيبًا {عزيز} لا يغلبه شيء وهو يغلب كل شيء {ذو انتقام} أي تسلط وبطش شديد بسطوة.
قال الحرالي: فأظهر وصف العزة موصولًا بما أدام من انتقامه بما يعرب عنه كلمة ذو المفصحة بمعنى صحبة ودوام، فكأن في إشعاره دوامًا لهذا الانتقام بدوام أمر الكتاب الجامع المقابل علوه لدنو هذا الكفر، وكان في طي إشعار الانتقام أحد قسمي إقامة اليومية في طرفي النقمة والرحمة، فتقابل هذان الخطابان إفصاحًا وإفهامًا من حيث ذكر تفصيل الكتب إفصاحًا فافهم متنزل الفتنة في الابتداء إلاحة، فإنه كما أنزل الكتب هدى أنزل متشابهها فتنة، فتعادل الإفصاحان والإلاحتان، وتم بذلك أمر الدين في هذه السورة انتهى.
وما أحسن إطلاق العذاب بعد ذكر الفرقان ليشمل الكون في الدنيا نصرة للمؤمنين استجابة لدعائهم، وفي الآخرة تصديقًا لقولهم وزيادة في سرورهم ونعيمهم، وتهديدًا لمن تُرك كثير من هذه السورة بسببهم وهم وفد نصارى نجران.
يجادلون النبي في أمر عيسى عليه الصلاة والسلام، فتارة يقولون: هو الله، وتارة يقولون: هو ابن الله، وتارة يقولون، هو ثالث ثلاثة، وكان بعضهم عالمًا بالحق في أمر عيسى عليه الصلاة والسلام وبأن أحمد الذي بشر به هو هذا النبي العربي فقال له بعض أقاربه: فلم لا تتبعه وأنت تعلم أن عيسى أمر باتباعه؟ فقال له: لو اتبهناه لسلبنا ملك الروم جميع ما ترى من النعمة، وكان ملوك الروم قد أحبوهم لاجتهادهم في دينهم وعظموهم وسودوهم وخولوهم في النعم حتى عظمت رئاستهم وكثرت أموالهم على ما بين في السيرة الهشامية وغيرها، واستمر سبحانه وتعالى يؤكد استجابته لدعاء أوليائه بالنصرة آخر البقرة في نحو قوله: {إن الذين كفروا لن تغني عنهم أموالهم} [آل عمران: 10] {قل للذين كفروا ستغلبون} [آل عمران: 12] إلى أن ختم السورة بشرط الاستجابة فقال: {اصبروا وصابروا} [آل عمران: 200]، ثم قال توضيحًا لما قدم في آية الكرسي من إثبات العلم، واستدلإلا على وصفه سبحانه وتعالى بالقيومية التي فارق بها كل من يدعي فيه الإلهية مشيرًا بذلك إلى الرد على من جادل في عيسى عليه الصلاة والسلام فأطراه بدعواه أنه إله، وموضحًا لأن كتبه هدى وأنه عالم بالمطيع والعاصي بما تقدم أنه أرشد العطف في {والله عزيز} لى تقديره، ومعللًا لوصفه بالعزة والقدرة لما يأتي في سورة طه من أن تمام العلم يستلزم شمول القدرة. اهـ.

.قال أبو حيان:

لما قرر تعالى أمر الإلهية، وأمر النبوّة بذكر الكتب المنزلة، توعد من كفر بآيات الله من كتبه المنزلة، وغيرها، بالعذاب الشديد من عذاب الدنيا، كالقتل، والأسر، والغلبة، وعذاب الآخرة: كالنار. اهـ.

.قال الفخر:

اعلم أنه سبحانه وتعالى لما قرر في هذه الألفاظ القليلة جميع ما يتعلق بمعرفة الإله، وجميع ما يتعلق بتقرير النبوّة أتبع ذلك بالوعيد زجرًا للمعرضين عن هذه الدلائل الباهرة فقال: {إِنَّ الذين كَفَرُواْ بأيات الله لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ والله عَزِيزٌ ذُو انتقام}.
واعلم أن بعض المفسرين خصص ذلك بالنصارى، فقصر اللفظ العام على سبب نزوله، والمحققون من المفسرين قالوا: خصوص السبب لا يمنع عموم اللفظ، فهو يتناول كل من أعرض عن دلائل الله تعالى. اهـ.

.من أقوال المفسرين في قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآَيَاتِ الله لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَالله عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ (4)}:

.قال ابن عاشور:

قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بآيَاتِ الله لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ}.
استئناف بياني ممهد إليه بقوله: {نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ} لأن نفس السامع تتطلع إلى معرفة عاقبة الذين أنكروا هذا التنزيل.
وشمل قوله: {الَّذِينَ كَفَرُوا بآيَاتِ الله} المشركين واليهود والنصارى في مرتبة واحدة، لأن جميعهم اشتركوا في الكفر بالقرآن، وهو المراد بآيات الله هنا لأنه الكتاب الوحيد الذي يصح أن يوصف بأنه آية من آيات الله؛ لأنه معجزة. وعبر عنهم بالوصول إيجازا؛ لأن الصلة تجمعهم، والإيماء إلى وجه بناء الخبر وهو قوله: {لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ}. اهـ.

.قال الألوسي:

{إِنَّ الذين كَفَرُواْ بأيات الله} يحتمل أن تكون الإضافة للعهد إشارة إلى ما تقدم من آيات الكتب المنزلة، ويحتمل أن تكون للجنس فتصدق الآيات على ما يتحقق في ضمن ما تقدم وعلى غيره كالمعجزات وأضافها إلى الاسم الجليل تعيينًا لحيثية كفرهم وتهويلًا لأمرهم وتأكيدًا لاستحقاقهم العذاب، والمراد بالموصول إما من تقدم في سبب النزول أو أهل الكتابين أو جنس الكفرة وعلى التقديرين يدخل أولئك فيه دخولًا أوليًا {لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ} ابتداء وخبر في موضع خبر إن ويجوز أن يرتفع العذاب بالظرف والتنكير للتفخيم ففيه إشارة إلى أنه لا يقدر قدره وهو مناط الحصر المستفاد من تقديم الظرف والتعليق بالموصول الذي هو في حكم المشتق يشعر بالعلية وهو معنى تضمنه الشرط وترك فيه الفاء لظهوره فهو أبلغ إذا اقتضاه المقام. اهـ.

.من أقوال المفسرين في قوله تعالى: {والله عَزِيزٌ ذُو انتقام}:

.قال الفخر:

العزيز الغالب الذي لا يغلب والانتقام العقوبة، يقال انتقم منه انتقامًا أي عاقبه، وقال الليث يقال: لم أرض عنه حتى نقمت منه وانتقمت إذا كافأه عقوب بما صنع، والعزيز إشار إلى القدرة التامة على العقاب، وذو الانتقام إشارة إلى كونه فاعلًا للعقاب، فالأول: صفة الذات، والثاني: صفة الفعل، والله أعلم. اهـ.

.قال البيضاوي:

{والله عَزِيزٌ} غالب لا يمنع من التعذيب.
{ذُو انتقام} لا يقدر على مثله منتقم، والنقمة عقوبة المجرم والفعل منه نقم بالفتح والكسر، وهو وعيد جيء به بعد تقرير التوحيد والإِشارة إلى ما هو العمدة في إثبات النبوة تعظيمًا للأمر، وزجرًا عن الإِعراض عنه. اهـ.

.قال الألوسي:

{والله عَزِيزٌ} أي غالب على أمره يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد {ذُو انتقام} افتعال من النقمة وهي السطوة والتسلط يقال: انتقم منه إذا عاقبه بجنايته، ومجرده نقم بالفتح والكسر وجعله بعضهم بمعنى كره لا غير والتنوين للتفخيم، واختار هذا التركيب على منتقم مع اختصاره لأنه أبلغ منه إذ لا يقال صاحب سيف إلا لمن يكثر القتل لا لمن معه السيف مطلقًا، والجملة اعتراض تذييلي مقرر للوعيد مؤكد له. اهـ.

.قال أبو حيان:

{والله عزيز ذو انتقام} أي: ممتنع أو غالب لا يغلب، أو منتصر ذو عقوبة، وقد تقدّم أن الوصف: بذو، أبلغ من الوصف بصاحب، ولذلك لم يجيء في صفات الله صاحب، وأشار بالعزة إلى القدرة التامة التي هي من صفات الذات، وأشار بذي انتقام، إلى كونه فاعلًا للعقاب، وهي من صفات الفعل.
قال الزمخشري: {ذو انتقام} له انتقام شديد لا يقدر على مثله منتقم. انتهى.
ولا يدل على هذا الوصف لفظ: ذو انتقام، إنما يدل على ذلك من خارج اللفظ. اهـ.

.تفسير الآية رقم (5):

قوله تعالى: {إِنَّ الله لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ (5)}

.من أقوال المفسرين:

.قال البقاعي:

{إن الله} بما له من صفات الكمال التي منها القيومية {لا يخفى عليه شيء} وإن دق، ولما كان تقريب المعلومات بالمحسوسات أقيد في التعليم والبعد عن الخفاء قال وإن كان علمه سبحانه وتعالى لا يتقيد بشيء: {في الأرض ولا في السماء} أي ولا هم يقدرون على أن يدعوا في عيسى عليه الصلاة والسلام مثل هذا العلم، بل في إنجيلهم الذي بين أظهرهم الآن في حدود السبعين والثمانمائة التصريح بأنه يخفى عليه بعض الأمور، قال في ترجمة إنجيل مرقس في قصة التي كانت بها نزف الدم: إنها أتت من ورائه فأمسكت ثوبه فبرأت فعلم القوة التي خرجت منه، فالتفت إلى الجمع وقال: من مس ثوبي؟ فقال له تلاميذه: ما ندري، الجمع يزحمك، ويقول: من اقترب؟ فجاءت وقالت له الحق، فقال: يا ابنة! إيمانك خلصك؛ وهو في إنجيل لوقا بمعناه ولفظه: فجاءت من ورائه وأمسكت طرف ثوبه، فوقف جري دمها الذي كان يسيل منها، فقال يسوع من لمسني؟ فأنكر جميعهم، فقال بطرس والذي معه: يا معلم الخير! الجميع يزحمك ويضيق عليك ويقول: من الذي لمسني من قرب مني؟ قد علمت أن قوة خرجت مني إلى آخره.
وقال ابن زبير: ثم أشار قوله تعالى: {إن الله لا يخفى عليه شيء} إلى ما تقدم أي في البقرة من تفصيل أخبارهم.
فكان الكلام في قوة أن لو قيل: أيخفي عليه مرتكبات العباد! وهو مصورهم في الأرحام والمطلع عليهم حيث لا يطلع عليهم غيره انتهى. اهـ.

.قال القرطبي:

هذا خبر عن علمه تعالى بالأشياء على التفصيل؛ ومثله في القرآن كثير.
فهو العالم بما كان وما يكون وما لا يكون؛ فكيف يكون عيسى إلهًا أو ابن إله وهو تَخْفى عليه الأشياء!. اهـ.

.قال الألوسي:

قوله تعالى: {إِنَّ الله لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ}.
استئناف لبيان سعة علمه سبحانه وإحاطته بجميع ما في العالم الذي من جملته إيمان من آمن وكفر من كفر إثر بيان كمال قدرته وعظيم عزته وفي بيان ذلك تربية للوعيد وإشارة إلى دليل كونه حيًا وتنبيه على أن الوقوف على بعض المغيبات كما وقع لعيسى عليه السلام بمعزل من بلوغ رتبة الصفات الإلهية، والمراد من الأرض والسماء العالم بأسره، وجعله الكثير مجازًا من إطلاق الجزء وإرادة الكل، ومن قال: أنه لا يصح في (كل) كل وجزء بناءًا على اشتراط التركيب الحقيقي وزوال ذلك الكل بزوال ذلك الجزء جعل المذكور كناية لا مجازًا، وتقديم الأرض على السماء إظهارًا للاعتناء بشأن أحوال أهلها واهتمامًا بما يشير إلى وعيد ذوي الضلالة منهم وليكون ذكر السماء بعد من باب العروج قيل: ولذا وسط حرف النفي بينهما، والجملة المنفية خبر لأن، وتكرير الإسناد لتقوية الحكم وكلمة في متعلقة بمحذوف وقع صفة لشيء مؤكدة لعمومه المستفاد من وقوعه في سياق النفي أي لا يخفى عليه شيء مّا كائن في العالم بأسره كيفما كانت الظرفية، والتعبير بعدم الخفاء أبلغ من التعبير بالعلم. اهـ.

.قال الفخر:

اعلم أن هذا الكلام يحتمل وجهين:
الاحتمال الأول: أنه تعالى لما ذكر أنه قيوم، والقيوم هو القائم بإصلاح مصالح الخلق ومهماتهم، وكونه كذلك لا يتم إلا بمجموع أمرين أحدهما: أن يكون عالمًا بحاجاتهم على جميع وجوه الكمية والكيفية والثاني: أن يكون بحيث متى علم جهات حاجاتهم قدر على دفعها، والأول: لا يتم إلا إذا كان عالمًا بجميع المعلومات، والثاني: لا يتم إلا إذا كان قادرًا على جميع الممكنات، فقوله: {إِنَّ الله لاَ يخفى عَلَيْهِ شيء فِي الأرض وَلاَ في السماء} إشارة إلى كمال علمه المتعلق بجميع المعلومات، فحينئذ يكون عالمًا لا محالة مقادير الحاجات ومراتب الضرورات، لا يشغله سؤال عن سؤال، ولا يشتبه الأمر عليه بسبب كثرة أسئلة السائلين ثم قوله: {هُوَ الذي يُصَوّرُكُمْ فِي الأرحام كَيْفَ يَشَاء} إشارة إلى كونه تعالى قادرًا على جميع الممكنات، وحينئذ يكون قادرًا على تحصيل مصالح جميع الخلق ومنافعهم، وعند حصول هذين الأمرين يظهر كونه قائمًا بالقسط قيومًا بجميع الممكنات والكائنات، ثم فيه لطيفة أخرى، وهي أن قوله: {إِنَّ الله لاَ يخفى عَلَيْهِ شيء فِي الأرض وَلاَ في السماء} كما ذكرناه إشارة إلى كمال علمه سبحانه، والطريق إلى إثبات كونه تعالى عالمًا لا يجوز أن يكون هو السمع، لأن معرفة صحة السمع موقوفة على العلم بكونه تعالى عالمًا بجميع المعلومات، بل الطريق إليه ليس إلا الدليل العقلي، وذلك هو أن نقول: إن أفعال الله تعالى محكمة متقنة، والفعل المحكم المتقن يدل على كون فاعله عالمًا، فلما كان دليل كونه تعالى عالمًا هو ما ذكرنا، فحين ادعى كونه عالمًا بكل المعلومات بقوله: {إِنَّ الله لاَ يخفى عَلَيْهِ شيء فِي الأرض وَلاَ في السماء} أتبعه بالدليل العقلي الدال على ذلك، وهو أنه هو الذي صور في ظلمات الأرحام هذه البنية العجيبة، والتركيب الغريب، وركبه من أعضاء مختلفة في الشكل والطبع والصفة، فبعضها عظام، وبعضها غضاريف، وبعضها شرايين، وبعضها أوردة، وبعضها عضلات، ثم أنه ضم بعضها إلى بعض على التركيب الأحسن، والتأليف الأكمل، وذلك يدل على كمال قدرته حيث قدر أن يخلق من قطرة من النطفة هذه الأعضاء المختلفة في الطبائع والشكل واللون، ويدل على كونه عالمًا من حيث إن الفعل المحكم لا يصدر إلا عن العالم، فكان قوله: {هُوَ الذي يُصَوّرُكُمْ فِي الأرحام كَيْفَ يَشَاء} دإلا على كونه قادرًا على كل الممكنات، ودإلا على صحة ما تقدم من قوله: {إِنَّ الله لاَ يخفى عَلَيْهِ شيء فِي الأرض وَلاَ في السماء} وإذا ثبت أنه تعالى عالم بجميع المعلومات، وقادر على كل الممكنات، ثبت أنه قيوم المحدثات والممكنات، فظهر أن هذا كالتقرير لما ذكره تعالى أولًا من أنه هو الحي القيوم، ومن تأمل في هذه اللطائف علم أنه لا يعقل كلام أكثر فائدة، ولا أحسن ترتيبًا، ولا أكثر تأثيرًا في القلوب من هذه الكلمات.